
بعد سقوطِ النِّظام البائد بأيام خرجت مظاهرةٌ سِلميَّة في ساحة الأمويين في قلب العاصمة دمشق تطالب ببناء الدولة السورية على أساس علماني لما في ذلك من احترام لكافة الفئات والطوائف والأعراق المتنوعة في سورية.
تعرَّضت هذه المطالبات لحملة تشويه ممنهجة، على وسائل التواصل الاجتماعي من مؤيدي ما يسمى ” بقيادة العمليات العسكرية ” . حاول منظمو هذه الحملة، عن جهل أو عن سوء فهم، تشويه فكرة علمانية الدولة وتحييدها عن مسارها الحقيقي. فمنهم من روَّج أنَّ المطالبة بالعِلمانيَّة تعني بالضرورة محاربة الدِّين. ومنهم من حاول بابتذال ربط العِلمانيَّة بالبغاء والدعارة .
أُسُس العِلمانيَّة:
فما هي أسس العِلمانيَّة في بناء الدولة وما هي النماذج العِلمانيَّة الناجحة في العالم؟
للعلمانية ثلاث مبادئ أساسية وهي:
1) فصل الدِّين عن الدولة:
أي فصل المؤسسات الدِّينية عن مؤسسات الدولة والمجالات الأخرى العامة التي يمكن للدين أن يشارك فيها بطريقة غير مباشرة، وهذا المبدأ هو الأساس الذي تقوم عليه العِلمانيَّة، والذي يضمن عدم تدخّل رجال الدِّين والجماعات الدِّينية في شؤون الدولة، والعكس أيضًا، بحيث لا تتدخل الدولة بشؤون هذه الجماعات الدِّينية.
2) الحرية الدِّينية
تهدف العِلمانيَّة إلى حماية حقوق المواطنين فيما يخص حرياتهم الدِّينية ومعتقداتهم، إذ يسعى العِلمانيُّون إلى تطبيق حرية التفكير على الجميع، بحيث لا يكون هناك تمييز بين المؤمنين وغير المؤمنين، فالجميع له الحرية في اختيار الدِّين والمعتَقد، كما أن العِلمانيَّة تدافع عن حق المواطنين جميعهم في إظهار معتقداتهم الدِّينية لكن بطريقة لا تؤذي الآخرين ولا تمس حقوقهم، ومن الجدير بالذكر أنها إلى جانب حمايتها لحق المواطن في اعتناق الدِّين الذي يريده، فهي أيضًا توفر له حرية التحرر من هذا الدِّين دون أي تبعات.
3) المساواة
تقوم العِلمانيَّة على أساس الديمقراطية والإنصاف والمساواة بين الجميع أمام القانون، إذ لا يمكن لأي انتماء سواء كان دينيًّا أو سياسيًّا أن يعطي لصاحبه أية مزايا أو انتقاصات، وهي تهدف إلى تحقيق المساواة بين المواطنين على اختلافاتهم، فيتمتع المؤمنون الذين ينتمون إلى ديانة أو طائفة ما بالحقوق والامتيازات ذاتها التي يتمتع بها غير المؤمنين، كما أن المساواة هنا تعني أن الجميع متشاركون في الخدمات التي تقدمها الدولة مثل العلاج الطبي وتوفير الأمن والحماية وغير ذلك.
نشأة العِلمانيَّة كفكر تاريخياً :
نشأت العِلمانيَّة في عصر التنوير والنهضة الأوروبية لمواجهة الكنيسة ومعارضة وقوفها في وجه التطور العلمي وسيطرتها على المجتمع ومؤسساته، وذلك بسبب مبالغة رجال الكنيسة في تسلطهم الذي تجاوز كل الحدود.
إذ تحول رجال الدِّين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار “الإكليروس” و”الرهبانية” وبيع “صكوك الغفران”، وكذلك بسبب وقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيلها لمحاكم التفتيش واتهامها العلماء بالكفر.
ومن بين الأمثلة على ذلك ما تعرض له العالم والفيلسوف والفلكي البولندي “نيكولاس كوبرنيكوس”، الذي نشر سنة 1543م كتاباً عن حركات الأجرام السماوية فمنعته الكنيسة، وتبنى أفكاراً مماثلة بعده الفلكي والعالم الإيطالي غاليليو غاليلي وطوّرها إلى أن قال بأن الأرض كروية الشكل، فهاجمته الكنيسة وحاكمته ومنعت كتاباته.
وقد كان الانتشارُ الفِعلي للدَّعوة العِلمانيَّة في أوروبا مع الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 التي توجت جهودها بالانتصار الفعلي على الكنيسة والحكم الدِّيني. حتى نجحت بتشكيل أول حكومة غير دينية تحكم باسم الشعب وذلك في عام 1799.
النماذج العِلمانيَّة الناجحة في العالم :

– ألمانيا
تعد ألمانيا إحدى أهم القوى السياسية والاقتصادية والصناعية في الاتحاد الأوروبي لابل في العالم ككل. هذا الزهو وهذه القوة لم يأتيا من فراغ. حيث نفضت الأمة الألمانية غبار الحرب العالمية الثانية عقب انحلال الحزب النازي عام 1945. ألمانيا التي تُعتبر فقيرة بالموارد فلا تملك احتياطي نفطي مؤثر كما في دول الخليج على سبيل المثال لا الحصر.
نهضت خلال أقل من 30 سنة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي دمرتها عن بكرة أبيها فقط من خلال استثمارها في الفرد الألماني الذي عملت عليه وعلى تنشئته منذ الصغر ضمن برامج حكومية مدروسة، حيث أصبح المواطن الألماني هو المورد الأساسي والأول للاقتصاد .
ألمانيا العِلمانيَّة استقبلت إبان الثورة السورية وما نجم عنها من حرب أكثر من مليون مواطن سوري معظمهم من المسلمين. قدمت لهم المسكن والمأكل والطبابة المجانية. علمتهم في مدارسها. ونجحت في تهيئة معظمهم ليكونوا عمادا للاقتصاد الألماني في الحاضر والمستقبل. فهناك ما يقارب 4000 طبيب سوري في ألمانيا هربوا من أتون الحرب إلى أحضان العِلمانيَّة الألمانية التي هُيِّئَت لهم كلُّ ظروف النجاح في ظل احترامٍ ومراعاةٍ مُنقطعيِّ النَّظير لخصوصية اختلاف مذاهبهم ومعتقداتهم.
ألمانيا التي- ورغم العديد من الجرائم التي وقعت على أراضيها من مهاجرين- ما زالت كأمة- بصرف النظر عن الخطاب السياسي التجاري- ترحب بالأجانب وتعتبرهم جزءا لا يتجزأ من المجتمع الألماني.
– تركيا
قد يكون المثال التركي للعلمانية أكثر قرباً لحقيقة مجتمعنا في سوريا. حيث أن المجتمع هناك يشبه إلى حد ما نظيره السوري في التنوع الطائفي والاثني وحتى العرقي مع تماثل في أغلبية ساحقة للطائفة السنية..
حيث أنه ووفقا للإحصائيات بين (85-90%) من الاتراك يتبعون الطائفة السنية، بينما يتبع ما بين (10-15%) الطائفة العلوية .كما يعتنق ما بين 0.6%-0.9% الديانة المسيحية ويعتنق حوالي 0,04% اليهودية.
يقوم الدستور تركيا – وهي دولة مسلمة بطبيعة الحال – على اساس علماني. قُدِّمت العِلمانيَّة لأول مرة في تركيا مع تعديل عام 1928 لدستور عام 1924، والذي ألغى النص الذي أعلن عن أن (دين الدولة هو الإسلام )، ومع الإصلاحات اللاحقة لرئيس تركيا الأول مصطفى كمال أتاتورك..
يتعايش الاتراك بمختلف مذاهبهم ومعتقداتهم وفقا لدستور علماني حديث يضمن حقوق جميع فئات المجتمع. قد لا تكون التجربة التركية مع العِلمانيَّة هي الأنجح اذا ما قارناها بتجارب الدول في أوروبا الغربية. إلا أنها وبدون مواربة مثال يدحض كلَّ محاولات البعض لتشويه فكرة العِلمانيَّة وتصويرها على أنها محاربة للدِّين أو إِفساد للمجتمع .
فالعِلمانيَّة ببساطة تضمن لك حق ممارسة اعتقادك الدِّيني وتحمي لك هذا الحق دون أن تفرض عليك أيَّة عادات أو أعراف مخالفة لما اعتادت عليه مجتمعاتنا. إلا أنها وفي الوقت نفسه تضمن لمن يخالفك في الرأي والمعتقد حرية ممارسة حياته على اساس المواطنة والتعايش والقوانين الطبيعية الإنسانية.
صافي ربوع
| ملاحظـة: الآراء الواردة في المقالات تمثِّل آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة موقف أو رأي أسرة التحرير للجريدة. |





![[وجهة نظر] : بعد الكثير مِن “ننتظرُ ونَرى”، تشكيل الحكومة في ((سوريا الوسطى))](https://syrianstoday.com/wp-content/uploads/2025/03/N-0.jpg)

Ggjj